الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالمنافع المذكورة في الآية عبارة عن هذا لا غير.وسبب حرمة القمار هو أكل أموال الناس بالباطل، وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} [الآية: 189] ومثلها الآية [29 من سورة النساء]، وهو داخل في قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «إن رجالا يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار» روى البخاري ومسلم أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من قال لصاحبة تعال أقامرك فليتصدق».فإذا كان مطلق القول يقتضي الكفارة والصدقة تنبيء عن عظيم ما وجبت أو سنّت له، فما ظنك بالفعل مباشرة؟، ويدخل في الحديث الأول ما يسمونه الآن يا نصيب ألا فليحذره وليتجنّبه من يتق اللّه، لأنه تخوض في مال الغير وهو من الباطل المنصوص عليه بالآية المارة.قال عمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل: أفتنا يا رسول اللّه في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل والمال، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.وقد أنزل اللّه تعالى في الخمر أربع آيات الأولى مكية وهي قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ} الآية: 67 من سورة النحل فقد بينا فيها ما يقتضي هذا البحث، والثانية هذه مدنية فتركها جماعة كراهية الدخول في الإثم المشار إليه فيها لوصفه بالعظم، واستمر عليها الباقون لعدم الأمر باجتنابها وعدم قدرتهم على منع أنفسهم وقمع شهواتها، وقد ذكرنا ما يتعلق فيها بالمقدمة وسنأتي على تمام البحث في الآيتين [43 من النساء] و[90: 91 من المائدة] بصورة مفصلة إن شاء اللّه القائل: {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} ولهذا اجتنبها ذو والنفوس الطاهرة والإيمان القوي، لأنهم فهموا منها أن ما كثر إثمه كثر وزره وما عظم عقابه حرم فعله: {وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ} من أموالهم إذ لم يبين لهم اللّه القدر اللازم إنفاقه ليعملوا به، وإنما كرروا السؤال لأن الجواب في السؤال الأول لم يأت على قصدهم بل كان للغاية من الإنفاق كما مر، وكذلك لم يبين حضرة الرسول لهم ذلك، ولكنه يكثر من ترغيبهم بالإنفاق: {قُلْ} يا سيد الرسل أنفقوا: {الْعَفْوَ} أي الزائد على حوائجهم وذلك أنهم كانوا رضي اللّه عنهم لما سمعوا حضرة الرسول يكثر من الحث على الانفاق ويطنب في فضله صار منهم لشدة حرصه على ثواب النفقة ينفق جميع ما عنده، حتى إن منهم لا يبقي ما يحتاج إليه للأكل، فأمرهم في هذه بإنفاق الفاضل عن حاجتهم لكثرة ذوي الحاجة إذ ذاك من المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام، وكان السؤال في الآية 210 السابقة عن المنفق والمصرف فوقع هنا عن المقدار والكيفية.وكلمة العفو يجوز فيها الضم والفتح.روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول.وأخرج بن خزيمة مثله بزيادة تقول المرأة أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني.وأخرج بن سعيد عن جابر قال: قدم أبو حصين السّلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب، فقال يا رسول اللّه أصبت هذه من معدن هو ما ذكر بيانه آنفا فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه صلّى اللّه عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول اللّه فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول.فاشترط حضرة الرسول العنى عن الحاجة للمتصدق، فصاروا يمسكون ما يكفيهم ويتصدقون بالفاضل إلى أن حدد لهم حضرة الرسول القدرة الواجب إنفاقه في الزكاة، فمنهم من اقتصر عليه، ومنهم من داوم على إنفاق ما يفضل عن حاجته لقوة إيمانه ورغبة فيما أعده اللّه تعالى للمتصدقين من الأجر.ومن عقل تفسير هذه الآية على نحو ما ذكرنا علم أن القول بالنسخ لا وجه له.{كَذلِكَ} مثل هذا البيان الشافي: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} الموضحات لما تسألون عنه: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا} فتعلمون أنها زائلة فتأخذون منها قدر ما يكفيكم وتنفقون الفاضل فتنتفعون بثوابه في الدنيا: {وَالْآخِرَةِ} التي يجب أن تتفكروا فيها بعاقبة أمركم فتكثروا من الإنفاق مما تجود به نفوسكم من انعام اللّه عليكم وتزودوا لها من أعمال الخير رجاء ما أعده اللّه تعالى لأهل الخير، قالوا حينما أراد الملك الظاهر وضع ضريبة لأجل نفقات الحرب، واستفتى الإمام النوري فقال لا تتحقق هذه الحاجة إلا بعد بيع ما في قصر الملك من المماليك والأواني الذهبية والفضية التي هي من بيت المال، فإذا لم تكف فله وضع الضريبة المذكورة.ومن هذا القبيل قدمت مذكرة إلى سالاز رئيس وزارة البرتقال بطلب اعتماد إعانة لفرقة المغنين العازمة على السفر، فوقع بما نصه: كيف أعطي مالا للمغنين في الوقت الذي لا أجد ما أعطيه للباكين!.فاعتبروا أيها الناس وقيسوا بين هذا ووضعنا الحاضر مما تصرفه الحكومة من بيت المال على ولائم لا علاقة لها بالحرب ولأناس لا يستحقونها وفيها ما فيها.ألا فليتقوا اللّه ولينفقوا مما أنعم اللّه عليهم في وجوه البر والخير وإن كانوا لأبد فاعلين فليكن من مال أنفسهم ويتركوا مال بيت المال لما خصص له ولحاجة الجيش عند الحاجة لحفظ ثغور المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم.قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى} قال ابن عباس لما أنزل الله: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} الآية: 34 من الإسراء، صاروا يتحرجون حتى عن مخالطتهم فأنزل اللّه: {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين: {إِصْلاح لَهُمْ خَيْر} أي مخالطتكم لهم وإرشادكم إياهم لما فيه صلاحهم خير من مجانبتكم لهم وإعراضكم عنهم وأكثر أجرا لأن في ذلك النظر إلى أحوالهم ومناظرة أموالهم وتعليمهم كيفية استرباحها لهم لئلا تأكلها الزكاة، لأن ما لا يزيد ينقص فيسبب أضرارا لهم في المستقبل: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ} وتجالسوهم فيتعلموا طرق المعاش والمعاشرة مع الناس والتخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب السيئة ويأنسوا بكم ويعرفوا ما يضرهم وينفعهم: {فَإِخْوانُكُمْ} أولئك اليتامى ومن واجب الأخوة المخالطة والملازمة لا التقاطع والمباعدة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} لأحوالهم: {مِنَ الْمُصْلِحِ} لها فكونوا مصلحين بتعليمهم الأخلاق العالية وأحوال البيع والشراء وسائر العقود التي من شأن البشر أن يتعلمها، وإن تركهم وشأنهم قد يوجب لهم الفساد والإفساد فتأثموا وتصيبكم منهم معرة، واللّه مطلع على نياتكم، فأحسنوا إليهم بما يفضي لخيرهم ومثوبتكم: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} بأن شدد عليكم الأمر وضيقه في وجود المخالطة وتنية أموالهم وحرمكم من ربحها، بأن يجعلكم كالخدم لهم، ولكن رحمة بكم وبحال اليتيم لم يشأ ذلك توسعة عليكم لاحتياج بعضكم إلى الربح بمال الغير لقلة ذات يده: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيز} لا يعجزه شيء قادر على التضييق عليكم في ذلك: {حَكِيم} يأمر بالتوسعة على عباده بما فيه صلاحهم من احتياج بعضهم إلى بعض لأن التعاون في هذه الدنيا مطلوب فجعل للخلق رابطة فيما بينهم لا غنى لهم عنها.وبعد أن ذكر اللّه تعالى ما يتعلق بالأيتام والإنفاق شرع يذكر ما يتعلق بالنكاح الذي هو من ضروريات البشر أيضا، لأن غالب ما ينزل في المدينة عبارة عن أحكام وحدود وغالب ما ينزل بمكة عقائد وأخبار مما هو بمنزلة التخلية والأحكام بمثابة التحلية ولا تكون التحلية إلا بعد التخلية تأمل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَةٍ} حرة حسنة: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} تلك الكافرة بما لها وجمالها ونسبها: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْد مُؤْمِن خَيْر مِنْ مُشْرِكٍ} حر قوي: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} ما له ونسبه وجاهه وشجاعته: {أُولئِكَ} المشركون والمشركات: {يَدْعُونَ إِلَى} الشرك والكفر المؤديين إلى: {النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى} الإيمان به ورسوله وكتابه المؤدية إلى: {الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} وإرادته وتوفيقه: {وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} بمعانيها فيعرفون معزاها ويتعظون بمرماها.فيتباعلون بمن مخافتها.كان صلّى اللّه عليه وسلم بعث أبا مرشد يسار بن حصين أبي مرشد الفنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من لمسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به خليلته عناق فجاءته وكافته أن يواقعها كما كان في الجاهلية، فقال لها ويحك إن الإسلام حال دون هذا، فقالت له تزوجني، فقال لها حتى استأذن رسول اللّه، فقالت له أبي تتبرّم واستعانت عليه بزبائنها، فضربوه، فلما رجع أعلم حضرة الرسول بما وقع له معها واستأمره بزواجها، فأنزل اللّه هذه الآية في هذه الكافرة، أما المؤمنة فهي خنساء وليدة حذيفة بن اليمان أعتقها وتزوجها وقال لها لقد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك.وقيل نزلت في عبد اللّه بن رواحه لأنه كان أعتق أمة وتزوجها، فعاتبه العرب وعرضوا عليه حرة مشركة، فأبى ولا مانع من تعدد أسباب النزول واعلم أن الشق الأخير من الآية خطاب إلى أولياء النساء عامة ينبئهم به أن لا يزوجوا المسلمات إلى المشركين، ولا يتزوجوا المشركات، لذلك السبب.الحكم الشرعي:يحرم على القطع زواج المسلم بالكافر والكافرة بالمسلم ولا ينعقد النكاح بإجماع الأمة، وحكم المجوس حكم المشركين لأنهم ليسوا بأهل كتاب، ويجوز أن يتزوج المسلم كتابية لأنه مؤمن بنبيا ونبيّها وكتابه وكتابها لا العكس، لأن الكتابي يجحد نبي المسلمة وكتابها ويوشك أن يحملها على الارتداد عن دينها، لأن الرجال قوامون على النساء وخاصة النصارى فلا طلاق عندهم إلا بالزنى ويوشك أن يضارها ولا سبيل للتخلص منه إذ لا مساغ للتفريق عندهم إلا بالزنى وهو محرم تأباه المسلمة، فيضطرها الحال على البقاء في الشقاء وتحمل الضيم والأذى والذل والهوان مما لا يلتئم وعزة المؤمنة وهذه الأشياء محتملة الوقوع مع الكتابية أيضا إلا أن حملها على الإسلام خير عند اللّه وعند زوجها، وإذا لم تعجبه يطلقها، وإذا ضارها فلها طلب التفريق، فاحتمال بقاء الضرر عليها معنى معدوم، لأن الشريعة الإسلامية كفلت لها حقها وساوتها بالمسلمة.وهذه الآية محكمة لأن اسم الشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان ولا وجه للقول بنسخها في حق الكتابيات لعدم دخولهن فيها، وما قيل إن أصحاب الشرك يتناولهن لأن اليهود تقول عزير بن اللّه والنصارى تقول المسيح بن اللّه لا يطرق على جميع أهل الكتاب بل هو مقتصر على من يقول ذلك بمعنى غير قابل للتأويل والتفسير، ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآية: 20 من سورة المائدة وهي مكررة فيها لأن اللّه جلت قدرته هو الأب الأكبر لجميع البشر ولكن لا على المعنى المتحقق بالأبوة تعالى اللّه وتنزه عن ذلك، كما أن الخلق كلهم أولاده وعياله، ولكن لا على المعنى المتحقق في البنوة كما سنأتي على تفصيل هذا في الآية المذكورة في محلّها إن شاء اللّه القائل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ} لهم يا حبيبي: {هُوَ أَذىً} للذين يقربون زوجاتهم معه لقذارته: {فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ} أيها الناس إن أردتم المحافظة على صحتكم وطاعة ربكم: {فِي الْمَحِيضِ} مدة وجوده، فإنه يسبب لكم الأذى، قيل هو الجذام ولا داء أقبح منه، فقد جاء بالأخبار من أتى حائضا وجذم فلا يلومن إلّا نفسه.فاحذروا أيها الناس قربان نسائكم معه: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} مبالغة في عدم المجامعة، وإلا فالقربان بلا جماع غير ممنوع كما ستعلم فلا تجامعوهن: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ} بانقضاء مدة الحيض واغتسلن منه: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي في القبل محل الحرث: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} عما نهوا عنه بعد أن فعلوه جهلا أو عمدا ثمّ تابوا فتركوه، ولم يعودوا إليه امتثالا لأمره: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} من الأقذار الظاهرة والباطنة والمعاصي الحسية والمعنوية.
|